الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **
فمن الحوادث فيها: ما جرى بين الحجاج وابن الأشعث من الحرب فمن ذلك أن ابن الأشعث كان قد دخل البصرة في آخر ذي الحجة واقتتلوا في محرم هذه السنة وتزاحفوا ذات يوم فاشتد قتالهم فهزمهم أهل العراق حتى بلغت هزيمتهم إلى الحجاج فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه وقال: لله در مصعب ما كان أكرمه فعلم أنه لا يريد أن يفر ثم هزم أهل العراق فخر ساجدًا وأقبل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة وتبعه أهل القوة من أهل البصرة فوثب أهل البصرة حينئذ إلى عبد الرحمن بن عياش بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه فقاتل بهم الحجاج أشد قتال خمس ليال ثم انصرف فلحق بابن الأشعث. وفي هذه السنة: بين الحجاج وابن الأشعث وذلك في شعبان وبعضهم يقول: إنما كانت في سنة ثلاث وثمانين. وتلخيص القصة: أن ابن الأشعث لما جاء إلى الكوفة خرجوا لتلقيه فلما دخل مال إليه أهل الكوفة كلهم وسبقت همدان إليه فحفوا به عند دار عمرو بن حريث وبايعه الناس وتقوضت إليه المسالح والثغور فأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب وبعث إليه ابن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل البصريين فمنعوه نزول القادسية ثم سايره حتى نزل دير قرة. ونزل عبدالرحمن بن العباس دير الجماجم وجاء ابن الأشعث فنزل دير الجماجم وكان الحجاج يقول: ما كان عبد الرحمن يزجر الطير حين رآني نزلت دير قرة ونزل دير الجماجم فاجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من المصرين كلهم اجتمعوا على حرب الحجاج وكانوا مبغضين له وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم من مواليهم. وجاءت للحجاج أمداد من قبل عبد الملك واشتد القتال فقيل لعبد الملك: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج فانزعه تحقن به الدماء فإن نزعه أيسر من حربهم. فأمر ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم وأن يجري عليهم أعطياتهم كما تجري على أهل الشام فإن هم قبلوا ذلك نزع عنهم الحجاج. وكان محمد بن مروان أمير العراق فإن هم لم يقبلوا ذلك فالحجاج أمير جماعة أهل الشام وولي القتال ومحمد وعبد الله في طاعته فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له من ذلك مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم. فكتب إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين والله لإن أعطيت أهل العراق نزعي فإنهم لا يلبثون إلا قليلًا حتى يخالفوك ويسيروا إليك ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان بن عفان فلما سألهم: ما تريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص فلما نزعه لم تقم لهم قائمة حتى ساروا إليه فقتلوه إن الحديد بالحديد يقرع خار الله لك فيما فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من الحرب فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله فقال: يا أهل العراق أنا عبد الله بن أمير المؤمنين وهو يعطيكم كذا وكذا فذكر الخصال التي تقدم ذكرها وقال محمد: أنا رسول أمير المؤمنين إليكم وهو يعرض عليكم كذا وكذا قالوا: نرجع العشية فرجعوا واجتمعوا عند ابن الأشعث فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه فحمد الله تعالى ثم قال: أما بعد فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء والقوم لكم هائبون. فوثب الناس من كل جانب فقالوا: إن الله عز وجل قد أهلكهم فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة ونحن ذوو العدد الكثير والمادة القريبة لا والله لا نقبل. وأعادوا خلعه ثانية فرجع محمد بن مروان وعبد الله إلى الحجاج فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك فإنا قد أمرنا أن نسمع ونطيع.وخلياه والحرب. فبرزوا للقتال فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكناني وعلى ميسرته عمارة بن تميم وعلى خيله سفيان بن الأبرد وعلى رجالته عبد الله بن حبيب. وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي وعلى خيله عبدالرحمن بن عباس الهاشمي وعلى رجالته محمد بن سعد بن أبي وقاص وعلى القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي وكان فيهم عامر الشعبي وسعيد بن جبير وأبو البخترة الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم إنهم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسوادها. فهم فيما هم فيه فيما شاءوا من خصبهم وإخوانهم من أهل البصرة وأهل الشام في ضيق شديد قد قل عندهم الطعام وفقدوا اللحم وكأنهم في حصار وهم على ذلك يقتتلون أشد قتال فخرجوا ذات يوم وقد عبى الحجاج جيشه ثم زحف في صفوفه وخرج ابن الأشعث في سبعة صفوف بعضها في أثر بعض. أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا أبو عبد الله الحميدي قال: أخبرنا محمد بن سلامة القضاعي قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب قال: أخبرنا ابن دريد قال: حدثنا أبو عثمان قال: حدثني عبد الله قال: حدثنا أبو التياح قال:شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن أيام ابن الأشعث فأما ابن الأشعث فكان يأمر بالكف وينهي عن القتال وأما سعيد فكان يحرض ويأمر بالقتال ويقول: والله ما خلعنا أمير المؤمنين ولا نريد خلعه ولكننا نقمنا عليه الحجاج وكان الحسن يقول: أيها الناس تعلموا والله ما سلط الحجاج عليكم إلا عقوبة من الله فلا تعارضوا عقوبة الله بالحمية والسيوف ولكن عارضوها وفي هذه السنة: وكان المهلب يومئذ وراء النهر لحرب من هناك فولى أخاه يزيد بن المهلب مكان ولده. وفيها: صالح المهلب من وراء النهر على شيء يؤدونه وفصل عنهم. وفيها: توفي المهلب فولى الحجاج يزيد بن المهلب خراسان. وفيها: عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة وولاها هشام بن إسماعيل المخزومي فلما وليها عزل نوفل بن مساحق العامري. وقال الواقدي: كان هذا في سنة ثلاث وثمانين فكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاث عشرة ليلة. وفيها: حج بالناس أبان بن عثمان وكان على العراق والمشرق الحجاج وعلى خراسان يزيد بن المهلب من قبل الحجاج. أوس بن خالد أبو الجوزاء الربعي صحب ابن عباس اثنتي عشرة سنة وسأله عن جميع آيات القرآن. وروى عن عائشة وخرج مع ابن الأشعث فقتل أيام الجماجم. أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا عبد القادر بن محمد قال: أخبرنا الحسن بن علي التميمي قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال: حدثنا نوح بن قيس قال: حدثنا سليمان الربعي قال:كان أبو الجوزاء يواصل في الصوم بين سبعة أيام ثم يقبض على ذراع الشاب فيكاد يحطمها. أسماء بن خارجة أبو مالك الفزاري الكوفي روى عنه ابنه مالك. روى الأصمعي عن ابن عمرو بن العلاء قال: دخل أسماء بن خارجة على عبد الملك بن مروان فقال له: بلغني عنك خصال شريفة فأخبرني بهن فقال: يا أمير المؤمنين إن استماعهن من غيري أحسن من استماعهن مني. فقال: أقسم عليك إلا أخبرتني بهن قال: يا أمير المؤمنين ما سألني أحد قط حاجة إلا قضيتها كائنة ما كانت ولا أكل رجل من طعامي ولا شرب من شرابي إلا رأيت له الفضل علي ولا أقبل علي بحديثه إلا أقبلت عليه بسمعي وبصري حتى يكون هو المولي عني ولا مددت رجلي أمام جليسي فيرى أن ذلك استطالة مني عليه. قال: وبلغنا أن أسماء بن خارجة رجع يومًا إلى باب داره فرأى فتى على الباب فقال: يا فتى ما يجلسك هاهنا فقال: خير. فألح عليه فقال: جئت سائلًا إلى هذه الدار فخرجت إلي منها جارية ترفد فاختطفت قلبي فجلست لكي تخرج ثانية فأنظر إليها. قال: أو تعرفها قال:نعم. فدعا بالجواري فجعل يعرضهن عليه حتى مرت به قال: هي هذه. قال: مكانك. فخرج إليه بعد قليل فجعل يعتذر إليه ويقول: إنها لم تكن لي كانت لبعض بناتي وقد اشتريتها لك بثلاثة آلاف درهم خذها بارك الله لك فيها. خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان كان من رجالات قريش والمعدودين من كبرائهم سخاء وفصاحة وعقلًا. وكان قد شغل نفسه بعمل الكيمياء فضاع زمانه. وكان مروان بن الحكم قد تزوج أمه أم خالد لأجل أن الناس كانوا ينظرون إلى خالد لمكان أبيه وكان مروان يطمعه في بعض الأمر ثم بدا له فعقد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وأخذ يضع من خالد حتى شتمه يومًا وذكر أمه بالقبح - على ما ذكرنا في أخبار مروان بن الحكم - فكان ذلك سبب قتل مروان. أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال: أخبرنا علي بن محمد العلاف قال: حدثنا عبد الملك بن بشران قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الكندي قال: حدثنا محمد بن جعفر الخرائطي قال: حج عبد الملك بن مروان وحج معه خالد بن يزيد بن معاوية وكان من رجالات قريش المعدودين وعلمائهم. وكان عظيم القدر عند عبد الملك فبينا هو يطوف بالبيت إذ بصر برملة بنت الزبير بن العوام فعشقها عشقًا شديدًا ووقعت بقلبه وقوعًا متمكنًا. فلما أراد عبد الملك القفول هم خالد بالتخلف عنه فوقع بقلب عبد الملك تهمه فبعث إليه يسأله عن أمره فقال: يا أمير المؤمنين رملة بنت الزبير رأيتها تطوف بالبيت قد أذهبت عقلي والله ما أبديت لك ما بي حتى عيل صبري فلقد عرضت النوم على عيني فلم تقبله والسلو على قلبي فامتنع منه فأطال عبد الملك التعجب من ذلك وقال: ما كنت أقول إن الهوى يستأسر مثلك فقال: وإني لأشد تعجبًا من تعجبك مني ولقد كنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس: الشعراء والأعراب. فأما الشعراء فإنهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء والغزل فمال طمعهم إلى النساء فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى فاستسلموا له منقادين. وأما الأعراب فإن أحدهم يخلو بامرأته فلا يكون الغالب عليه غير حبه لها ولا يشغله شيء عنه فضعفوا عن دفع الهوى فتمكن منهم. وجملة أمري ما رأيت نظرة حالت بيني وبين الحرم وحسنت عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه. فتبسم عبد الملك وقال: أو كل هذا قد بلغ بك فقال: والله ما عرفتني هذه البلية قبل وقتي هذا فوجه عبد الملك إلى آل الزبير يخطب رملة على خالد فذكروا لها ذلك فقالت: لا والله أو يطلق نساءه فطلق امرأتين كانتا عنده إحداهما من قريش والأخرى من الأزد وظعن بها إلى الشام. وفيها يقول: أليس يزيد الشوق في كل ليلة ** وفي كل يوم من حبيبتنا قربا خليلي ما من ساعة تذكرانها ** من الدهر إلا فرجت عني الكربا أحب بني العوام طرًا لحبها ** ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا تجول خلاخيل النساء ولا أرى ** لرملة خلخالًا يجول ولا قلبا قال مؤلف الكتاب رحمه الله: وقد ازداد بعض أعدائه في هذه الأبيات: فإن تسلمي نسلم وإن تتنصري ** يخط رجال بين أعينهم صلبا فلما سمع البيت قال من قاله: لعنه الله عليه وعلى من يجيبه. أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الوهاب قال: أخبرنا أبو جعفر ابن المسلمة قال: أخبرنا المخلص قال: أحمد بن سليمان بن داود قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: دخلت رملة بنت الزبير على عبد الملك بن مروان وكانت عند خالد بن يزيد بن معاوية فقال لها: يا رملة غرني عروة منك فقالت: لم يغررك ولكن نصحك إنك قتلت مصعبًا أخي فلم يأمني عليك. وكان عبد الملك أراد أن يتزوجها فقال له عروة: لا أرى ذلك لك. وكان الحجاج قد بعث إلى خالد: ما كنت أراك تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني فكيف خطبت إلى قوم ليسوا بأكفائك وهم الذين نازعوا أباك على الخلافة ورموه بكل قبيحة. فقال لرسوله: ارجع فقل له: ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك إلى أن أؤامرك في خطبة النساء وأما قولك: نازعوا أباك وشهدوا عليه بالقبيح فإنها قريش تتقارع فإذا أقر الله الحق مقره تعاطفوا وتراحموا. وأما قولك: ليسوا لك بأكفاء. فقبحك الله يا حجاج ما أقل علمك بأنساب قريش أيكون العوام كفوءًا لعبد المطلب بن هاشم حتى يتزوج صفية ويتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ولا تراهم أكفاء لأبي سفيان. ولما قدم الحجاج على عبد الملك مر بخالد فقال له رجل: من هذا فقال خالد كالمستهزئ به: هذا عمرو بن العاص فرجع الحجاج إليه فقال: ما أنا بعمرو بن العاص ولكني ابن الغطاريف من ثقيف والعقائل من قريش ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف كلهم يشهد أن أباك وأنت وجدك من أهل النار ثم لم آخذ لذلك عندك شكرًا. سفيان بن وهب الخولاني أبو أيمن: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد مع عمرو فتح مصر وولي الإمرة لعبد العزيز بن مروان على بعث الطليعة إلى إفريقية سنة ثمان وسبعين وتوفي في هذه السنة. طلق بن حبيب العنزي روى عن ابن عباس وجابر وكان متعبدًا. أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الجبار قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح قال: أخبرنا ابن أخي ميمي قال: حدثنا ابن صفوان قال: حدثنا أبو بكر القرشي قال: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثني عبد الصمد النعماني قال: حدثنا يوسف بن عطية عن الحجاج بن يزيد قال: كان طلق بن حبيب يقول: إني لأحب أن أقوم لله حتى أشتكي ظهري فيقوم فيبتدئ بالقرآن حتى يبلغ الحجر ثم يركع. عمر بن عبيد الله بن معمر أبو حفص التميمي أمير البصرة كان جوادًا صديقًا لزياد الأعجم قبل أن يلي فقال له عمر: يا أبا أمية لو قد وليت لتركتك لا تحتاج إلى أحد أبدًا. فلما ولي عمر فارس قصده زياد فلما لقيه أنشأ يقول: ألا ابلغ أبا حفص رسالة ناصح ** أتت من زياد مستبينًا كلامها فقال له عمر: لا يكون عليك ظلامها أبدًا فقال: لقد كنت أدعو الله في السر أن أرى ** أمور معد في يديك نظامها فقال: قد رأيت ذلك فقال: فلما أتاني ما أردت تباشرت ** بناتي وقلن العام لا شك عامها قال:: فهو عامها إن شاء الله تعالى قال: فأنى وأرض أنت فيها ابن معمر ** كمكة لم يطرق لأرض حمامها قال: فهي كذلك يا زياد فقال: إذا اخترت أرضًا للمقام رضيتها ** لنفسي ولم يثقل علي مقامها وكنت أمني النفس منك ابن معمر ** أماني أرجو أن تتم تمامها قال: قد أتمها الله لك قال: فلا أك كالمجرى إلى رأس غاية ** ترجى سماء لم تصبه غمامها فقال: لست كذلك فسل حاجتك.فقال: نجيبة وخادمها وفرس رائع وسائسه وبدرة وحاملها وجارية وخادمها وتخت ثياب ووصيفة تحمله.فقال: قد أمرنا بجميع ما سألت وهو لك علينا في كل سنة. فخرج من عند عمر حتى قدم على عبد الله بن الخشرج وهو بسابور إن السماحة والمروءة والندا في قبة ضربت على ابن الخشرج لما أتيتك راجيًا لنوالكم ألفيت باب نوالكم لم يرتج فأمر له بأربعة آلاف درهم. أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد قال: أخبرنا علي ابن أبي علي المعدل قال: حدثني أبي قال: روى أبو روق الهمداني عن الرياشي: أن بعض أهل البصرة اشترى صبية فأحسن تأديبها وتعليمها وأحبها كل المحبة وأنفق عليها حتى أملق وحتى مسه الضر الشديد فقالت الجارية: إني لأرى لك يا مولاي مما أرى بك من سوء الحال فلو بعتني اتسعت بثمني فلعل الله أن يصنع لك وأقع أنا بحيث يحسن حالي فيكون ذلك أصلح لكل واحد منا. قال: فحملها إلى السوق فعرضت على عمر بن عبد الله بن معمر التيمي وهو أمير البصرة يومئذ فأعجبته فاشتراها بمائة ألف درهم فلما قبض مولاها الثمن وأراد النصراف استعبر كل واحد منهما إلى صاحبه شاكيًا فأنشأت الجارية تقول: هنيئًا لك المال الذي قد حويته ** ولم يبق في كفي غير تذكري أقول لنفسي وهي في غشي كربة ** أقلي فقد بان الحبيب أو اكثري إذا لم يكن للأمر عندك حيلة ** ولم تجدي شيئًا سوى الصبر فاصبري فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ** يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري أروح بهم في الفؤاد مبرح ** أناجي به قلبًا شديد التفكر عليك سلام لا زيارة بيننا ** ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر فقال له ابن معمر: قد شئت خذها ولك المال فانصرفا راشدين فوالله لا كنت سببًا لفرقة محبين. وروى ابن عائشة عن أبيه قال: لما خرج ابن الأشعث أرسل عبد الملك إلى عمر بن عبد الله بن معمر ليقدم عليه فمات في الطريق بالطاعون. فقام عبد الملك على قبره وقال: أما والله لقد علمت قريش أنها فقدت اليوم نابًا من أنيابها. ورثاه الفرزدق الشاعر فقال: كانت يداه لنا سيفًا نصول به ** على العدو وغيثًا ينبت الشجرا أما قريش أبا حفص قد رزيت ** بالشأم إذا فارقتك الناس والظفرا المهلب بن أبي صفرة وكان اسم أبي صفرة ظالمًا ويكنى المهلب أبا سعيد: وقد أدرك عمر لكنه لم يرو عنه وروى عن سمرة وغيره وولي خراسان وكان جوادًا. أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا محمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية. قال: حدثنا ابن دريد قال: أخبرنا المعلى عن حاتم قال: أخبرني حفص بن عمر قال: نزل المهلب في دار محمد بن مخنف فلما شخص قال: دعوا لهم المتاع فترك لهم بسطًا وغيرهابثلاثمائة ألف درهم. أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال: حدثنا شجاع بن فارس قال: أخبرنا محمد بن علي بن الفتح قال: أخبرنا ابن أخي ميمي قال: حدثنا ابن صفوان قال: أخبرنا أبو بكر القرشي قال: حدثني هارون بن أبي يحيى السلمي قال: حدثني مسامر بن جميل: أن المهلب مر بقوم فأعظموه وسودوه فقال رجل: ألهذا الأعور تسودون والله لو خرج إلى السوق ما جاء إلا بألفي درهم. فقال لبعض من معه: أتعرف الرجل قال: نعم فلما انتهى إلى منزله أرسل إليه ألفي درهم وقال: أما أنك لو زدتنا في القيمة لزدناك في العطية. قال القرشي: وحدثني محمد بن أبي رجاء قال: أغلظ رجل للمهلب بن أبي صفرة فسكت فقيل له: أربا عليك قال: لم أعرف مساوئه فكرهت أن أبهته بما ليس فيه. قال علماء السير: انصرف المهلب من وراء النهر يريد مرو فمرض فجمع من حضر من ولده ودعا بسهام فحزمت فقال: أترونكم كاسريها مجتمعة قالوا: لا قال: أفترونكم كاسريها متفرقة قالوا: نعم قال: فهكذا الجماعة فأوصيكم بتقوى الله عز وجل وصلة الرحم وأنهاكم عن القطيعة واعرفوا لمن يغشاكم حقه وكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له وآثروا الجود على البخل وعليكم في الحرب بالأناة والمكيدة فإنها أنفع من الشجاعة وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وآداب الصالحين وإياكم وكثرة الكلام. ومات في ذي الحجة من هذه السنة بمرو الروذ واستخلف على خراسان ولده يزيد فأقره الحجاج. ومن العجائب: أنه كان للمهلب ثلاثة أولاد: يزيد وزياد ومدرك ولدوا في سنة واحدة وقتلوا في سنة واحدة وأسنانهم واحدة عاش كل واحد منهم ثمانية وأربعين سنة. المغيرة بن المهلب: كان خليفة أبيه على عمله كله فتوفي في رجب من هذه السنة. فمن الحوادث فيها: وذلك أن عبد الرحمن نزل دير الجماجم وهو دير بظاهر الكوفة على طرف البر الذي يسلك منه إلى البصرة وإنما سمي بدير الجماجم لأنه كان بين أياد والقين حروب فقتل من أياد والقين خلق كثير ودفنوا فكان الناس يحفرون فتظهر لهم جماجم فسمي دير الجماجم وذلك اليوم بيوم الجماجم. ونزل الحجاج دير قرة - وهو مما يلي الكوفة بإزاء دير الجماجم - فقال الحجاج: ما اسم هذا الموضع الذي نزل فيه ابن الأشعث قيل له: دير الجماجم فقال الحجاج: يقال هو بدير الجماجم فتكثر جماجم أصحابه عنده ونحن بدير قرة ملكنا البلاد واستقررنا فيها. واتصلت الحرب بينهما مائة يوم كان فيها إحدى وثمانون وقعة وكان يحمل بعضهم على بعض فحمل أهل الشام مرة بعد مرة فنادى عبد الرحمن بن أبي ليلى: يا معشر القراء إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم إني سمعت عليًا عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانًا يعمل به ومنكرًا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونور قلبه باليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق ولا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه. وقال أبو البخترى: أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم فوالله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم وليغلبن على دنياكم. وقال الشعبي: يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم فوالله ما أعلم قومًا على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور منهم في الحكم. وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء وأماتتهم الصلاة. فحمل أصحاب عبد الرحمن على القوم حتى أزالوهم عن صفهم ثم عادوا فإذا جبلة بن زحر بن قيس الجعفي الذي كان على الرجالة صريع فانكسر القراء وحمل رأسه إلى الحجاج فقال: يا أهل الشام أبشروا هذا أول الفتح وما زالوا يقتتلون ويتبارز الرجل والرجل مائة يوم. ثم إن أصحاب عبد الرحمن انهزموا في بعض الأيام وأخذوا في كل وجه وصعد عبد الرحمن المنبر وأخذ ينادي الناس: عباد الله إلي إلي عباد الله إلي أنا ابن محمد. وجاء إلى جماعة من أصحابه فأقبل أهل الشام فحملوا عليهم وهو على المنبر فقال له عبد الله بن يزيد الأزدي: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعًا يهلكهم الله به بعد اليوم. وحضر مع القوم سلمة بن كهيل وعطاء السلمي والمعرور بن سويد وطلحة بن مصرف. ورأى طلحة رجلًا يضحك فقال له: أما إنك تضحك ضحك من لم يحضر الجماجم فقيل له: وشهدت الجماجم فقال: نعم ورميت فيها بسهم وليت يدي قطعت ولم أرم فيها. ثم إنه نزل من على المنبر وانهزم أهل العراق لا يلوون على شيء ومضى عبد الرحمن في أناس من أهل بيته إلى منزله فخرجت إليه ابنته فالتزمها وخرج أهله يبكون فأوصاهم بوصية وقال: لا تبكوا فكم عسيت أن أبقى معكم وإن الذي يرزقكم حي ثم ودعهم وخرج من الكوفة فقال الحجاج: لاتتبعوهم ومن رجع فهو آمن. وجاء الحجاج إلى الكوفة فدخلها فجاء الناس إليه فكان لا يبايعه أحد إلا قال: أتشهد أنك كفرت فإذا قال نعم بايعه وإلا قتله فجاء رجل من خثعم فقال له: أتشهد أنك كافر فقال: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله عز وجل ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر قال: إذًا أقتلك قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري ظمء حمار وإني لأنتظر الموت صباحًا ومساء فقال: اضربوا عنقه فضربت عنقه. ودعا بكميل بن زياد فقتله وأتي برجل فقال الحجاج: إني أرى رجلًا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر فقال: أخادعي أنت عن نفسي أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون ذي الأوتاد فضحك الحجاج وخلى سبيله. وفي هذه السنة: بعدما انهزم من دير الجماجم وكان السبب أن محمد بن سعد بن أبي وقاص خرج بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن واجتمع إليه ناس كثير وخرج عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد حتى قدم البصرة وهو بها فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن فأقبل عبيد الله إليه وقال: إنما أخذتها لك. وخرج الحجاج قبل المدائن فأقام بها خمسًا حتى هيأ الرجال في المعابر وخندق ابن الأشعث وأقبل نحو الحجاج والتقوا فاقتتلوا فانهزم أهل العراق وقتل أبو البخترى الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى ثم قاتلوا فكشفوا أهل الشام مرارًا ثم انهزم ابن الأشعث. وقيل: بل بعث الحجاج جندًا فأتوا عسكر ابن الأشعث من ورائهم في الليل فتحيزوا لأن نهر دجيل عن يسارهم ودجلة أمامهم فكان من غرق أكثر ممن قتل ودخل الحجاج إلى عسكرهم فانتهب ما فيه وقتل أربعة آلاف. ومضى ابن الأشعث ومعه فل نحو سجستان فأتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي فأدرك ابن الأشعث بالسوس فقاتلهم ابن الأشعث ساعة ومضى ابن الأشعث حتى مر بكرمان وجاء إلى بلدة له فيها عامل فاستقبله العامل وأنزله فلما عقل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا عنه أوثقه ذلك العامل وأراد أن يأمن بذلك عند الحجاج فجاء رتبيل حتى أحاط بذلك البلد وبعث إليه ذلك الرجل وقال: والله لئن آذيته أو ضررته لأقتلنك ومن معك ثم أسبي ذراريكم وأقسم أموالكم فقال له: أعطنا أمانًا ونحن ندفعه إليك سالمًا فصالحهم على ذلك فأخذه رتبيل فأكرمه. ثم إن الفلول أقبلوا في أثر ابن الأشعث حتى سقطوا بسجستان فكانوا نحوًا من ستين ألفًا وكتبوا إلى عبد الرحمن بعددهم فخرج إليهم فساروا إلى هراة فخرج من جملتهم عبيد الله بن عبد الرحمن في ألفين ففارقهم فلما أصبح ابن الأشعث قام فيهم فقال: إني قد شهدتكم في هذه المواطن فما من موطن إلا أصبر فيه نفسي حتى لا يبقى منكم أحد فلما رأيت أنكم لا تصبرون أتيت مأمنًا فكنت فيه فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا فقد اجتمعنا وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم فحسبي منكم يومي هذا فاصنعوا ما بدا لكم فإني منصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب. فمضى إلى رتبيل ومضت معه طائفة وبقي معظم العسكر فوثبوا إلى عبد الرحمن بن العباس فبايعوه وذهبوا إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة وسار إليهم يزيد بن المهلب فقاتلهم وأسر منهم فبعث الأسرى إلى الحجاج فقتل منهم وعفى عن بعضهم. وجيء بفيروز فعذبه بأن شد القصب الفارسي المشقق عليه ثم جر عليه ثم نضح عليه الخل والملح فلما أحس بالموت قال:لي ودائع عند الناس لا تؤدى إليكم أبدًا فأخرجوني ليعلموا أني حي فيردوا المال. فقال الحجاج:أخرجوه فأخرج إلى باب المدينة فقال: من كان لي عنده شيء فهو في حل منه ثم قتل. وذكر الحجاج الشعبي فقال: أين هو فقال يزيد بن أبي مسلم: بلغني أنه لحق بقتيبة بن مسلم بالري وكان الحجاج قد نادى: من لحق بقتيبة فهو آمن فلحق به الشعبي فقال ليزيد: ابعث إليه فليؤت به فكتب إلى قتيبة: أن ابعث الشعبي. قال الشعبي وكان صديقًا لابن أبي مسلم: فلما قدمت على الحجاج لقيته فقلت: أشر علي فقال: ما أدري غير أن أعتذر ما استطعت. فلما دخلت سلمت عليه بالإمرة ثم قلت: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلمه الله عز وجل أنه الحق وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقًا وقد والله حرضنا عليك وجهدنا كل الجهد فما كنا فيما كنا أتقياء بررة فإن سطوت فبذنوبنا وإن عفوت فبحلمك والحجة لك. فقال: أنت والله أحب إلي قولًا ممن يدخل وسيفه يقطر من دمائنا ثم يقول: ما فعلت. قد أمنت عندنا يا شعبي. أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك وابن ناصر قال: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار قال: أخبرنا القاضي إسماعيل بن سعيد بن سويد قال: أخبرنا أبو بكر بن الأنباري قال: حدثنا أبو الحسن بن البراء قال: حدثنا العباس بن عبد الله قال: حدثني سليمان بن أحمد عن عيسى بن موسى عن الشعبي قال: انطلق بي إلى الحجاج وأنا في حلق الحديد فلما كنت بباب القصر استقبلني يزيد بن أبي مسلم وكان صديقًا لي فقال لي: يا شعبي وآهًا لما بين دفتيك من العلم وليس بيوم شفاعة أقر للأمير بالشرك والنفاق على نفسك فبالحرى تنجو وما أراك بناج. ثم دخلت القصر فاستقبلني محمد بن الحجاج فقال لي مثل مقالة يزيد فلما دخلت على الحجاج قال لي: يا شعبي ألم أشرفك ولا يشرف مثلك ألم أوفدك ولا يوفد مثلك ألم أكتب إلى ابن أبي بردة قاضي الكوفة ألا يقطع أمرًا دونك قلت: كل ذلك قد كان أصلح الله الأمير قال: فما الذي أخرجك قلت: أحزن بنا المنزل وضاق بنا المسلك وأجدب بنا الجناب واكتحلنا السهر استشعرنا الخوف ووقعنا في حرب والله ما كنا فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء فقال: صدق أطلقا عنه. فقال: وأمرني بلزوم بابه. وفي هذه السنة: وكان سبب ذلك أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان فعسكروا بحمام عمر. وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرس فانصرف إلى منزله ليلًا فإذا سكران من أهل الشام قد طرق الباب فقالت المرأة: هذا كل ليلة يأتينا فنلقى منه المكروه فلما دخل ضرب الفتى رأسه فأندره فلما أصبحوا علم الناس بالقتيل فذهبوا به إلى الحجاج فسأل المرأة فصدقته فقال: قتيل إلى النار لا قود له. ثم نادى مناديه: لا ينزلن أحد على أحد وبعث روادًا يرتادون له منزلًا حتى نزل أطراف كسكر فبينا هو في موضع واسط إذا راهب قد أقبل على حماره فلما كان في موضع واسط بالت الأتان فنزل الراهب فاحتفر الأرض وحمل التراب فرمى به في دجلة فقال الحجاج: علي به فجيء به فقال: ما حملك على ما صنعت قال: نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله عز وجل فيه ما دام في الأرض من يوحد فبنى المسجد في ذلك الموضع. أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو الحسين بن النقور قال: أخبرنا الحسين بن هارون الضبي قال: في كتاب والدي عن البيهقي قال: أخبرني الرياشي قال: لما فرغ الحجاج من بناء واسط قال للحسن البصري بعد فراغه منها: كيف ترى بناءنا هذا قال الحسن: إن الله أخذ عهود العلماء ومواثيقهم أن لا يقولوا إلا الحق أما أهل السماء أيها الأمير فقد مقتوك وأما أهل الأرض فقد غروك أنفقت مال الله في غير طاعته يا عدو نفسه. فنكس الحجاج رأسه حتى خرج الحسن ثم قال: يا أهل الشام يدخل علي عبيد أهل البصرة ويشتمني في مجلسي ثم لا يكون لذلك معير ولا نكير ردوه فخرجوا ليردوه ودعا بالسيف ليقتله فلما دخل الحسن دعا بدعوات لم يتمالك الحجاج أن قربه ورحب به وأجلسه على طنفسته ثم دعا بالطيب فغلف لحيته وصرفه مكرمًا فلما خرج من عنده تبعه الحاجب وقال: يقول لك الأمير رأيتك تحرك شفتيك وقد كنت هممت بك فماذا قلت في دعائك فقال الحسن: قلت: يا عدتي عند كربتي ويا صاحبي عند شدتي ويا وولي نعمتي ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويا كهيعص بحق طه ويس والقرآن العظيم أرزقني معروف الحجاج ومودته واصرف عني أذاه ومعرته فقال الحاجب عندها: بخ بخ لهذا الدعاء. وأمر الحجاج بأن يكتب له هذا الدعاء. قال أبو إسحاق البيهقي: قال الرياشي: لقد دعوت بهذه الدعوات في الشدائد مرارًا ففرج الله عني. وفي هذه السنة:حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي وهو العامل على المدينة وكان العمال على الأمصار العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها. روح بن زنباع أبو زرعة الجذامي الشامي يقال: له صحبة ولا يصح وإنما يروي عن الصحابة وكان من كتاب عبد الملك. وكان عبد الملك يقول: إن روحًا الشامي الطاغية عراقي الخط حجازي الفقه فارسي الكتابة. وكان معاوية هم بروح بن زنباع فقال له: لا تشتمن بي عدوًا أنت وقمته ولا تسوؤن بي صديقًا أنت سررته ولا تهدمن مني ركنًا أنت بنيته هلا آتي حلمك وإحسانك على جهلي وإساءتي. فأمسك عنه. زيد بن وهب الجهني أبو سليمان رحل إلى حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد في الطريق روى عن عمر وعلي وابن مسعود وكبار الصحابة. زاذان أبو عمرو مولى كندة روى عن علي وابن مسعود وابن عمر وجرير وسلمان. وعن سالم بن أبي حفصة أن زاذان كان يبيع الثياب فإذا عرض الثوب ناول شر الطرفين. عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عيسى الأنصاري وفي اسم أبي ليلى أربعة أقوال: أحدهما يسار والثاني بلال والثالث بليل والرابع داود بن ولد عبد الرحمن لست سنين بقين من خلافة عمر بن الخطاب وروى عن عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب أبي وكعب بن عجرة والمقداد وزيد بن أرقم وأنس بن مالك وغيرهم. روى عنه مجاهد وثابت البناني والأعمش وغيرهم. وكان ثقة سكن الكوفة وشهد حرب الخوارج بالنهروان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت بإسناد له عن يزيد بن أبي زياد قال:قال لي عبد الله بن الحارث: اجمع بيني وبين ابن أبي ليلى فجمعت بينهما فقال عبد الله بن الحارث: ما شعرت أن النساء ولدت مثل هذا. قتل عبد الرحمن في الجماجم سنة ثلاث وثمانين.وقيل سنة إحدى وثمانين.والأول أصح. عبد الرحمن بن حجيرة أبو عبد الله الخولاني: روى عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما. وكان عبد الرحمن قد اجتمع له القضاء بمصر والقصص وبيت المال. وكان يأخذ رزقه في القضاء مائتي دينار وفي بيت المال مائتي دينار وعطاؤه مائتا دينار وجائزته مائتا دينار توفي في محرم هذه السنة. عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث أبو المصبح وهو أعشى همدان، شاعر فصيح كوفي من شعراء بني أمية وكان زوج أخت الشعبي والشعبي زوج أخته. وكان أحد القراء الفقهاء ثم ترك ذلك وقال الشعر ورأى في المنام أنه دخل بيتًا فيه حنطة وشعير فقيل له: خذ أيهما شئت فأخذ الشعير فقال له الشعبي: إن صدقت رؤياك تركت القرآن وقلت الشعر فكان ذلك. وخرج مع الأشعث فأخذه الحجاج فقتله صبرًا. شقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي أدرك رسول الله صلى عليه وسلم ولم يلقه. وسمع عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وعمارًا وخبابًا وأبا مسعود وأبا موسى وأسامة بن زيد وحذيفة بن اليمان وابن عمر وأبا الدرداء وابن عباس وجرير بن عبد الله والمغيرة بن شعبة. روى عنه منصور بن المعتمر وعمر بن مرة والأعمش وغيرهم. وكان من سكان الكوفة وورد المدائن مع علي بن أبي طالب حين قاتل الخوارج بالنهروان. قال الأعمش: قال لي شقيق: يا سليمان لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن الوليد يوم بزاخة فوقعت عن البعير فكادت تندق عنقي فلو مت يومئذ كانت النار أولى بي وكنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة. وقيل له: أيما أكبر أنت أو الربيع بن خثيم فقال: أنا أكبر منه سنًا وهو كان أكبر مني عقلًا. وقيل له: بأي شيء تشهد على الحجاج فقال: أتأمروني أنا أحكم على الله. وكان يسمع موعظة إبراهيم التيمي فينتفض انتفاض الطير وكان لا يلتفت في صلاة. وقال: درهم من تجارة أحب إلي من عشرة من عطائي. وعن سعيد بن صالح قال: كان أبو وائل يؤم جنائزنا وهو ابن خمسين ومائة سنة وعن عاصم قال: كان أبو وائل ينشج سرًا ولو جعلت له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل. وعن عاصم قال: كان لأبي وائل خص من قصب وهو فيه وفرسه فكان إذا غزا نقضه وإذا قدم بناه. معاذة بنت عبد الله العدوية تكنى أم الصهباء روت عن عائشة وروى عنها الحسن وأبو قلابة. وكانت تحيي الليل وكانت تقول: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور. ولما قتل زوجها صلة بن أشيم وابنها في بعض الغزوات اجتمع النساء عندها فقالت: [مرحبًا بكن إن كنتن جئتن لتهنئتي فمرحبًا بكن وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن] ولم تتوسد فراشًا بعد ذلك وكانت تقول: والله ما أحب البقاء إلى لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة. فلما احتضرت بكت ثم ضحكت فسئلت عن ذلك فقالت: أما البكاء فإني ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر وأما الضحك فإني نظرت إلى أبي الصهباء وقد أقبل في صحن الدار وعليه حلتان خضروان وهو في نفر ما رأيت لهم في الدنيا شبهًا فضحكت إليه، ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضًا.فماتت قبل دخول وقت الصلاة. فمن الحوادث فيها: وكان ممن كان مع ابن الأشعث وكان يدخل بعد ذلك على حوشب بن يزيد - وحوشب عامل الحجاج - فيقول حوشب: انظروا إلى هذا الواقف معي وغدًا أو بعد غد يأتي كتاب من الأمير لا أستطيع إلا انفاذه فبينا هو ذات يوم واقف أتاه كتاب من الحجاج: أما بعد فإنك قد صرت كهفًا لمنافقي أهل العراق فإذا نظرت في كتابي هذا فابعث إلي بابن القرية مشدودة يده إلى عنقه مع ثقة من قبلك. فلما قرأ الكتاب رمى به إليه فقرأه وقال: سمعًا وطاعة فبعث به موثقًا فدخل عليه فقال: أصلح الله الأمير أقلني عثرتي فإنه ليس جواد إلا وله كبوة فأمر به فقتل.وفي هذه السنة: غزا عبد الله بن عبد الملك بن مروان الروم ففتح المصيصة. وفيها: فتح يزيد بن المهلب قلعة كان يراصدها وكتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو فمنحنا الله أكتافهم وقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية وأهضام الغيطان. فقال الحجاج: من يكتب ليزيد فقيل: يحيى بن يعمر فكتب إلى يزيد ليحمله على البريد فلما دخل عليه رأى أفصح الناس فقال: أين ولدت قال: بالأهواز فقال: من أين لك هذه الفصاحة قال: حفظت كلام أبي وكان فصيحًا. قال: فأخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد قال: نعم كثيرًا قال: ففلان قال: نعم قال: فأخبرني عني ألحن: قال: نعم تلحن لحنًا خفيفًا تزيد حرفًا وتنقص حرفًا وتجعل أن في موضع إن قال: أجلتك ثلاثًا فإن أجدك بعد ثلاث بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان. وفيها: حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي وكان عمال الأمصار عمالها في السنة التي قبلها. بديح مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وكان يقال بديح المليح فكانت فيه فكاهة ومزاح وكان يغني وروى الحديث عن عبد الله بن جعفر. قال العتبي: دخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وهو يتأوه فقال: مالك قال: هاج بي عرق النسا في ليلتي هذه فبلغ مني قال: فإن بديحًا مولاي أرقى الخلق له فوجه إليه عبد الملك فجاء فقال: كيف رقيتك لعرق النسا قال: أرقى خلق الله فمد رجله فتفل عليها ورقاها مرارًا فقال عبد الملك: الله أكبر وجدت والله خفًا. يا غلام ادع لي فلانة تجيء وتكتب الرقية فإنا لا نأمن هيجها بالليل فلا ندعو بديحًا. فلما جاءت الجارية قال بديح: يا أمير المؤمنين امرأته طالق إن كتبتها حتى تعجل حبائي فأمر له بأربعة آلاف درهم فلما صارت بين يديه قال: وامرأته طالق إن كتبتها أو يصير المال في منزلي فأمر فحمل إلى منزله فلما أحرزه قال: امرأته طالق إن كنت قرأت على رجلك إلا أبيات نصيب: ألا إن ليلى العامرية أصبحت ** على النأي مني غير ذنبي فتنقم قال: ويلك ما تقول قال: امرأته طالق إن كان رقى إلا بما قال: فاكتمها علي قال: وكيف وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر فضحك عبد الملك حتى جعل يفحص برجليه. توفي بديح في هذه السنة. فمن الحوادث فيها: وسبب ذلك أنه لما رجع إلى رتبيل قال له رجل كان معه يقال له علقمة بن عمرو: ما أريد أن أدخل معك قال: لم قال: لأني أتخوف عليك وعلى من معك والله لكأني بكتاب من الحجاج قد جاء إلى رتبيل يرغبه ويرهبه فإذا هو قد بعث بك سلمًا أو قتلكم ولكن هاهنا خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصن فيها ونقاتل حتى نعطى أمانًا أو نموت كرامًا. فقال له عبد الرحمن: أما إنك لو دخلت معي لآسيتك وأكرمتك. فأبى عليه فدخل عبد الرحمن إلى رتبيل وخرج هؤلاء الخمسمائة فبعثوا عليهم مودودًا النضري وأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم فقاتلوه وامتنعوا منه حتى آمنهم فخرجوا إليه فوفى لهم. وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن أن ابعث به إلي وإلا فوالله الذي لا إله إلا هو لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل. وكان عند رتبيل رجل من بني تميم يقال له عبيد بن أبي سبيع فقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهدًا ليكفن الخراج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن فقال: إن فعلت ذلك فلك عندي ما سألت. فكتب إليه الحجاج يخبره أن رتبيل لا يعصيه وأنه لن يدع رتبيل حتى يبعث إليه بعبد الرحمن فأعطاه الحجاج على ذلك مالًا وأخذ من رتبيل عليه مالًا وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن إلى الحجاج وترك له الذي كان يأخذه منه سبع سنين. وفي رواية: أن عبد الرحمن أصابه سل فلما مات وأرادوا دفنه حز رتبيل رأسه وبعث به إلى الحجاج. وفي رواية: أن الحجاج كتب إلى رتبيل: إني قد بعثت إليك عمارة بن تميم في ثلاثين ألفًا من أهل الشام يطلبون ابن الأشعث.فأبى رتبيل أن يسلمه إليهم وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع قد خص به وتقرب من رتبيل وخص به فقال القاسم بن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر هذا فاقتله فهم به وبلغه ذلك فخاف فوشى به إلى رتبيل وخوفه الحجاج وخرج سرًا إلى عمارة فاستعجل في ابن الأشعث فجعل له ألف ألف فكتب بذلك عمارة إلى الحجاج فكتب إليه الحجاج: أن أعط عبيدًا ورتبيل ما سألاك فاشترط رتبيل أشياء فأعطيها وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث وثلاثين من أهل بيته وقد أعد لهم الجوامع والقيود فقيدهم أرسل بهم جميعًا إلى عمارة فلما قرب ابن الأشعث من عمارة ألقى نفسه من فوق قصر فمات. فاحتز رأسه فأتى به الحجاج فأرسل به إلى عبد الملك. وذكر بعضهم: أن مهلك عبد الرحمن كان في سنة أربع وثمانين. وفي هذه السنة: وسبب ذلك أن بعض أهل الكتاب قال له: يلي الأمر بعدك رجل يقال له يزيد فقال: ليس إلا ابن المهلب فعزله وولى المفضل فبقي تسعة أشهر وكان يزيد قد ولي سنة اثنتين وعزل سنة خمسففتحها وأصاب منها مغنمًا فقسمه بين الناس.ثم غزا مواضع أخر فظفر وغنم ولم يكن له بيت مال وإنما كان يقسم ما يغنم. وفيها: أراد عبد الملك خلع أخيه عبد العزيزفنهاه عن ذلك قبيصة بن ذؤيب وقال: لا تفعل فإنك تبعث بهذا على نفسك العار ولعل الموت يأتيه فتستريح منه. فكف عن ذلك ونفسه تنازعه ودخل عليه روح بن زنباع فقال: يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطح فيه عنزان قال: ترى ذلك يا أبا زرعة قال: إي والله وأنا أول من يجيبك إلى ذلك فقال: نصبح إن شاء الله. فبينا هو على ذلك وقد نام عبد الملك - ونفسه تنازعه - وروح بن زنباع دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب طروقًا وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه فقال: لا يحجب عني قبيصة أي ساعة جاء ليلًا أو نهارًا إن كنت خاليًا أو عندي أحد وإن كنت عند النساء أدخل المجلس وأعلمت بمكانه فدخل وكانت الأخبار تأتي إليه قبل عبد الملك فدخل عليه فسلم وقال: آجرك الله في أخيك عبد العزيز قال: وهل توفي قال: نعم فاسترجع عبد الملك ثم أقبل على روح فقال: كفانا الله ما كنا نريد وما اجتمعنا عليه فقال قبيصة: ما هو فأخبره بما قد كان فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين إن الرأي كله في الأناة والعجلة فيها ما فيها. وفي رواية: أن عبد الملك لما أراد خلع عبد العزيز ويبايع لابنه الوليد كتب إلى أخيه: إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك فأبى فكتب إليه: فاجعلها له من بعدك فكتب إليه: إني أرى في ولدي ما ترى في ولدك وإني وإياك قد بلغنا أشياء لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلًا وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولًا فإن رأيت لا تغثث علي بقية عمري فافعل. فرق عبد الملك وقال: لا أغثث عليه بقية عمره. وقال العمري: لا أعيب عليه بقية عمره. فلما مات عبد العزيز بن مروان بايع لولديه. وفي هذه السنة: وجعلهما وليي عهده فكتب ببيعتهما إلى البلدان وكتب إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يدعو الناس إلى بيعة ابنيه الوليد وسليمان فبايعوا غير سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبد الملك حي فضربه هشام ستين سوطًا وطاف به في ثياب شعر وسرحه إلى ذباب - ثنية بظاهر المدينة كانوا يقتلون عندها ويصلبون - فظن أنهم يريدون قتله فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه فقال: لو ظننت أنهم لا يقتلونني ما لبست سراويل مسوح. فبلغ ذلك عبد الملك فقال: قبح الله هشامًا إنما كان ينبغي له أن يدعوه إلى البيعة فإن أبى كف عنه أو يضرب عنقه. وقد ذكرنا أن ابن المسيب ضرب في بيعة ابن الزبير أيضًا لأنه قال: لا أبايع حتى يجتمع الناس. وفي هذه السنة: ولي قتيبة بن مسلم خراسان. وفيها: حج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي وكان العامل على المشرق والعراق الحجاج. عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وقد ذكرنا هلاكه في الحوادث. عبد العزيز بن مروان بن الحكم ابن أبي العاص بن أمية يكنى أبا الأصبغ روى عن أبي هريرة وعقبة بن عامر. وكان مروان قد فتح مصر وولاه عليها وأقره على ذلك عبد الملك وعقد مروان العهد لعبدالملك وبعده عبد العزيز.ثم أراد عبد الملك خلعه ليبايع لابنيه الوليد وسليمان فتوفي عبد العزيز بمصر في جمادى الأولى من هذه السنة.وقيل: بل في جمادى الآخرة من سنة ست وثمانين. وكان يقول حين حضرته الوفاة: ليتني لم أكن شيئًا مذكورًا. فلما بلغ الخبر عبد الملك ليلًا أصبح أخبرنا أبو منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم عبدالواحد بن محمد بن عثمان البجلي قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن موسى بن إسحاق الأنصاري قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال: حدثنا محمد بن يحيى بن أبي حاتم قال: حدثني محمد بن هانئ الطائي قال: حدثنا محمد بن أبي سعيد قال: قال عبد العزيز بن مروان: ما نظر إلي رجل قط فتأملني فاشتد تأمله إياي إلا سألته عن حاجته ثم أبيت من ورائها فإذا تعار من وسنه مستطيلًا ليله مستبطئًا لصحبه مقارفًا للقائي ثم غدا إلي أن تجارته في نفسه وغدا التجار إلى تجارتهم إلا رجع من غدوة إلى أربح من تجر وعجبًا لمؤمن موقن أن الله يرزقه ويوقن أن الله يخلف عليه كيف يحبس مالًا عن عظيم جزاء وحسن سماع. أخبرنا موهوب بن أحمد ومحمد بن ناصر والمبارك بن علي قالوا: أخبرنا علي بن العلاف قال: أخبرنا أحمد بن علي الحمامي قال: أخبرنا عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم قال: حدثنا موسى بن عبد الله قال: حدثنا ابن أبي سعيد الوراق قال: حدثنا أحمد بن عمر بن إسماعيل بن عبد العزيز الزهري قال: حدثني محمد بن الحارث المخزومي قال: دخل على عبد العزيز بن مروان رجل يشكو صهرًا له فقال: إن ختني فعل بي كذا وكذا فقال له عبد العزيز: من ختنك فقال له: ختنني الختان الذي يختن الناس فقال عبد العزيز لكاتبه: ويحك ما أجابني فقال له: أيها الأمير إنك لحنت وهو لا يعرف اللحن كان ينبغي أن تقول له: ما ختنك فقال عبد العزيز: أراني أتكلم بكلام لا يعرفه العرب لا شاهدت الناس حتى أعرف اللحن. قال: فأقام في البيت جمعة لا يظهر ومعه من يعلمه العربية قال: فصلى بالناس الجمعة وهو من أفصح الناس. قال: وكان يعطي على العربية ويحرم على اللحن حتى قدم عليه زوار من أهل المدينة وأهل مكة من قريش فجعل يقول للرجل منهم ممن أنت فيقول من بني فلان فيقول للكاتب: أعطه مائتي دينار حتى جاءه رجل من بني عبد الدار بن قصي فقال: ممن أنت قال: من بنو عبدالدار فقال له: خذها في جائزتك وقال للكاتب: أعطه مائة دينار. واثلة بن الأسقع بن عبد العزيز ابن عبد يا ليل بن ناشب أبو قرصافة أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي قال: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا ابن معروف قال: أخبرنا الحسين بن الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال: حدثنا محمد بن عمر قال:كان واثلة لما نزل ناحية المدينة وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه فلما دنا من واثلة قال: (من أنت) فأخبره قال: (ما جاء بك) قال: جئت أبايع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على ما أحببت وكرهت) قال: نعم قال: (فيما أطقت) قال: نعم.فأسلم وبايعه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها قال: نعم قال أبوه: والله لا أكلمك أبدًا فأتى عمه فسلم عليه فقال: قد فعلتها قال: نعم. فلامه أيسر من لائمة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر. فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه فسلمت عليه بتحية الإسلام فقال واثلة: أنى لك هذا يا أخية قالت: سمعت كلامك وكلام عمك وأسلمت فقال: جهزي أخاك جهاز غاز فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر. فجهزته فلحق النبي صلى الله عليه وسلم قد تحمل إلى تبوك وبقي غبرات من الناس وهم على الشخوص فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي قال: فدعاني كعب بن عجرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة بيدي وسهمك لي. قال واثلة: فقلت: نعم وجزاه الله خيرًا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئًا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئًا. وكان واثلة من أهل الصنعة فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الشام. قال محمد بن عمر: حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية قال: مات واثلة بن الأسقع بالشام سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة في آخر خلافة عبد الملك بن مروان. فمن الحوادث فيها: وقوع الطاعون ويقال طاعون الفتيات ماتت فيه الجواري وكان بالشام والبصرة وواسط والحجاج يومئذ بواسط. وقيل: أنه كان في سنة سبع وثمانين. وفيها: باب ذكر خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان ويكنى أبا العباس أمه ولادة العبسية وكان أسمر طوالًا حسن الوجه وكان له تسعة عشر ابنًا: عبد العزيز ومحمد أمهما أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وأبو عبيدة أمه فزارية والعباس وإبراهيم وليا الخلافة وتمام وخالد وعبد الرحمن ومبشر ومسرور وصدقة ومنصور ومروان وعنبسة وعمر وهو فحل بني مروان وكان يركب ومعه ستون من صلبه ذكورًا وروح وبشر ويزيد وهو الناقص ولي الخلافة ويحيى لأمهات شتى. وقد ذكرنا أن عبد الملك بايع للوليد قبل موته وكان أهل الشام يرون للوليد فضلًا ويقولون: بنى مسجد دمشق ومسجد المدينة وأعطى المجذمين وقال: لا تسألوا الناس وأعطى كل مقعد خادمًا وكل ضرير قائدًا وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عليه فيأخذ حزمة البقل بيده فيقول: بكم هذه فيقول: بفلس فيقول: زد فيها. وما مات الحجاج حتى ثقل على الوليد وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ مصانع وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضًا عن البناء والمصانع فولي سليمان وكان صاحب نكاح وطعام وكان الناس يلتقون فيسأل الرجل الرجل عن التزويج والجواري فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة وكم تحفظ من القرآن ومتى ختمت ومتى تختم. وكثرت الفتوح في أيام الوليد وكان مسلمة بن عبد الملك يتغلغل في بلاد الروم وقتيبة بن مسلم في بلاد العجم والترك وفتح كاشغر وافتتح محمد بن القاسم بلاد الهند وفتح محمد بن نصير أرض الأندلس ووجد بها مائدة سليمان بن داود عليهما السلام المرصعة بالجواهر. وكان في الوليد نوع ذكاء وفطنة وسمع صوت ناقوس فأمر بهدم البيعة فكتب إليه ملك الروم: إن هذه البيعة أقرها من قبلك فإن كانوا أصابوا فقد أخطأت وإن تكن أصبت فقد أخطأوا فقال الوليد: من يجيبه فأحجم الناس فأمر الوليد أن يكتب إليه حكمًا وعلمًا} وكان الوليد لحانة وكان عبد الملك يقول: أضرنا بالوليد حبنا له فلم نعربه في البادية - وقال لرجل: ما شآنك فقال له: شيخ يانعي فقال له عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك: ما شأنك قال: ختني ظلمني فقال له الوليد: من ختنك فنكس الإعرابي رأسه وقال: ما سؤال أمير المؤمنين عن هذا فقال له عمر: إنما أراد أمير المؤمنين من ختنك فقال: هذا وأشار إلى رجل معه. وكان الوليد أول من كتب من الخلفاء في الطوامير وعظم الكتب وحلل الخط وقال: لتظهر كتبي على كتب غيري. أخبرنا محمد بن ناصر قال: أخبرنا محفوظ بن أحمد الفقيه قال: أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا الحسن بن أحمد بن محمد الكلبي قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك ومهدي بن سابق قالا: حدثنا الفهيم بن عدي عن صالح بن كيسان قال: كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقًا للوليد يأتيه ويؤانسه فجلسا يومًا يلعبان بالشطرنج إذ أتاه الاذن فقال: أصلح الله الأمير رجل من أخوالك من أشراف ثقيف قدم غازيًا وأحب السلام عليك فقال: دعه فقال عبد الله: وما عليك ائذن له فقال: نحن على لعبنا وقد انحجبت قال: فادع بمنديل وضعه عليها ويسلم الرجل ونعود ففعل ثم قال: ائذن له فدخل وله هيئة بين عينيه أثر السجود وهو معتم قد رجل لحيته فسلم وقال: أصلح الله الأمير قدمت غازيًا فكرهت أن أجوزك حتى أقضي حقك قال: حياك الله وبارك عليك. ثم سكت عنه فلما أنس أقبل عليه الوليد فقال: يا خال هل جمعت القرآن قال: لا كانت تشغلنا عنه شواغل قال: هل حفظت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه أو أحاديثه شيئًا قال: كانت تشغلنا عن ذلك أموالنا قال: فأحاديث العرب وأيامها وأشعارها قال: لا قال: أحاديث أهل الحجاز ومضاحكها قال: لا قال: فأحاديث العجم وآدابها قال: ذلك شيء ما كنت أطلبه. فرفع الوليد المنديل قال: شاهك قال عبدالله بن معاوية: سبحان الله قال: لا والله ما معنا في البيت أحد. فلما رأى ذلك الرجل منهما خرج وأقبلوا على لعبهم. ولما دفن عبد الملك دخل الوليد المسجد فصعد المنبر فخطب فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون الله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة قوموا فبايعوا. فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السكوني وهو يقول: الله أعطاك التي لا فوقها ** وقد أراد المشركون عوقها عنك ويأبى الله إلا سوقها ** إليك حتى قلدوك طوقها ثم تتابع الناس على البيعة. وفي هذه السنة: قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليًا عليها من قبل الحجاج قدم والمفضل يعرض الجند وهو يريد أن يغزو فخطب قتيبة وحثهم على الجهاد ثم عرض الجند وسار واستخلف بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو وعلى الخراج عثمان بن السعدي فعبر النهر وتلقته الملوك بهدايا وافتدوا منه بلادهم فرضي ورجع إلى مرو. وقد زعم بعضهم أن قدوم قتيبة خراسان كان في سنة خمس وثمانين وكان فيما سبى امرأة وفيها: روى أبو بكر بن دريد عن أبي حاتم عن أبي معمر عن رجل من أهل الكوفة قال: كنا مع مسلمة بن عبد الملك ببلاد الروم فسبى سبيًا كثيرًا وأقام ببعض المنازل فعرض السبي على السيف فقتل خلقًا كثيرًا حتى عرض عليه شيخ ضعيف فأمر بقتله فقال: ما حاجتك إلى قتل شيخ مثلي إن تركتني جئتك بأسيرين من المسلمين شابين قال: ومن لي بذلك قال: إني إذا وعدت وفيت قال: لست أثق بك قال: فدعني أطوف في العسكر لعلي أعرف من يكفلني إلى أن أمضي وأجيء بالأسيرين. فوكل به من أمره بالطواف معه في عسكره والاحتفاظ به فما زال الشيخ يتصفح الوجوه حتى مر بفتى من بني كلاب قائمًا يحس فرسًا له فقال: يا فتى اضمني للأمير وقص عليه قصته. قال: فجاء الفتى معه إلى مسلمة فضمنه فأطلقه مسلمة فلما مضى قال: أتعرفه قال: لا والله قال: فلم ضمنته قال: رأيته يتصفح الوجوه فاختارني من بينهم فكرهت أن أخلف ظنه. فلما كان من الغد عاد الشيخ ومعه أسيران من المسلمين شابان فدفعهما إلى مسلمة وقال: أسأل الأمير أن يأذن لهذا الفتى أن يصير معي إلى حصني لأكافئه على فعله بي قال مسلمة للفتى: إن شئت فامض معه. فلما صار إلى حصنه قال: يا فتى تعلم أنك ابني قال: وكيف أكون ابنك وأنا رجل من العرب مسلم وأنت رجل نصراني من الروم قال: أخبرني عن أمك ما هي قال: رومية قال: فإني أصفها لك فبالله إن صدقت إلا صدقتني قال: أفعل. وأقبل الرومي يصف أن الفتى لايحترم منها شيئًا قال هي كذلك فكيف عرفت إني ابنها قال: بالشبه وتعارف الأرواح وصدق الفراسة ووجود شبهي فيك. ثم أخرج إليه امرأة فلما رآها الفتى لم يشك أنها أمه لشدة شبهه بها وخرجت معها عجوز كأنها هي فأقبلا يقبلان رأس الفتى فقال له الشيخ: هذه جدتك وهذه خالتك. ثم اطلع من حصنه فدعا بشباب في الصحراء فأقبلوا فكلمهم بالرومية فجعلوا يقبلون رأس الفتى ويديه ورجليه فقال: هؤلاء أخوالك وبنو خالاتك وبنو عم والدتك. ثم أخرج إليه حليًا كثيرة وثيابًا فاخرة وقال: هذه لوالدتك عندنا منذ سبيت فخذه معك وادفعه إليها فإنها ستعرفه ثم أعطاه لنفسه مالًا كثيرًا وثيابًا جليلة وحمله على عدة دواب وبغال وألحقه بعسكر مسلمة وانصرف. وأقبل الفتى قافلًا حتى دخل منزله وأقبل يخرج الشيء بعد الشيء مما عرفه الشيخ أنه لأمه فتراه فتبكي فيقول لها: قد وهبته لك فلما كثر هذا عليها قالت: يا بني أسألك بالله أي بلدة دخلت حتى صارت إليك هذه الثياب وهل قتلتم أهل الحصن الذي كان فيه هذا فقال لها الفتى صفة الحصن كذا وصفة البلد كذا ورأيت فيه قومًا من حالهم كذا فوصف لها أمها وأختها وهي تبكي وتقلق فقال: ما يبكيك فقالت: الشيخ والله أبيك والعجوز أمي وتلك أختي فقص عليها الخبر وأخرج بقية ما كان أنفذه معه أبوه إليها فدفعه إليها. وفي هذه السنة: حج بالناس هشام بن إسماعيل وكان الأمير على العراق والمشرق كله الحجاج وعلى الصلاة بالكوفة المغيرة بن عبد الله وعلى البصرة أيوب بن الحكم وعلى خراسان قتيبة بن مسلم. عبد الملك بن مروان مرض فجعل في مرضه يذم الدنيا ويقول: إن طويلك لقصير وإن كثيرك لقليل وأنا منك لفي غرور. ونظر إلى غسال يلوي ثوبًا بيده فقال: لوددت أني كنت غسالًا آكل من كسب يدي ولم آل شيئًا من هذا الأمر فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم إذا احتضروا يتمنون ما نحن فيه وإذا احتضرنا لم نتمن ما هم فيه. ودخل عليه الوليد فتمثل عبد الملك يقول: وتمثل أيضًا يقول: ومستخبر عنا يريد بنا الردى ** ومستخبرات والعيون سواجم فجلس الوليد يبكي فقال: ما هذا أتحن حنين الحمامة والأمة إذا مت فشمر اتزر والبس جلد النمر وضع سيفك على عاتقك فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه ومن سكت مات بدائه. وفي رواية أن الأطباء منعوه أن يشرب الماء ريًا فكان يشرب قليلًا قليلًا فاشتد عطشه فشرب ريًا فمات. أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك وابن ناصر قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار الصيرفي قال: أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن محمد النصيبي قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال: حدثني أبي قال: حدثنا أحمد بن عبيد قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المدائني قال:لما اشتد مرض عبد الملك بن مروان أيقن بفراق الدنيا والإفضاء إلى الآخرة دعى أبا علاقة مولاه فقال له: يا أبا علاقة والله لوددت أني كنت منذ يوم ولدت إلى يومي هذا حمالًا. ولم يكن لي من البنات إلا واحدة يقال لها فاطمة وكان قد أعطاها قرطي مارية والدرة اليتيمة فقال: اللهم إني لم أخلف شيئًا أهم إلي منها فاحفظها فتزوجها عمر بن عبد العزيز. وكان عند عبدالملك بنوه الوليد وسليمان ومسلمة وهشام ويزيد فقال لآذنه: اخرج فانظر من الباب ثم أعلمني فخرج فنظر ثم أتاه فقال: بالباب خالد بن يزيد بن معاوية وخالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العاص فقال: ائتني بسيفي فأتاه به فقال: جرده فجرده ثم قال: ضعه تحت ثني فراشي ففعل ثم قال: ائذن لهما فلما دخلا قال: أتعرفاني قالا: سبحان الله يا أمير المؤمنين أنت أمير المؤمنين وسيد الناس وولي أمرهم قال: لا إلا باسمي و واسم أبي قالا: أنت عبد الملك بن مروان قال: فمن هذا وأشار إلى الوليد وكان خلفه قد تساند إليه قالا: هذا سيد الناس بعدك وولي أمرهم قال: لا إلا باسمه واسم أبيه قالا: هذا الوليد بن عبد الملك قال:أتدريان لماذا أذنت لكما قالا: لترينا أثر نعمة الله عندك وما قد صرت إليه من التماثل والإفاقة قال: لا ولكنه قد نزل بي من الأمر ما قد تريان فهل في أنفسكما من بيعة الوليد شيء قالا: لا ما نرى أن أحدًا هو أحق بها منه بعدك قال: أولى لكما أما والله لو غير ذلك قلتما لضربت الذي في عيناكما - ثم رفع فراشه فإذا بالسيف مجرد قد هيأه لهما فخرجا عند ذلك. ثم أقبل على بنيه فقال: يا بني أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلة وأحصن كهف وأحرز جنة، وأن يعطف الكبير منكم على الصغير وأن يعرف الصغير منكم حق الكبير، وإياكم والفرقة والاختلاف فإن بها هلك الأولون وذل به ذو العز، أنظروا مسلمة وأصدروا عن رأيه فإنه مجنكم الذي به تستجنون ونابكم الذي عنه تفترون، وكونوا بني آدم بررة ولا تدنوا العقارب منكم، وكونوا في الحرب أحرارًا وللمعروف منارًا فإن الحرب لن تدني منية قبل وقتها، وإن المعروف يبقى آخره وذكره، واحلولوا في مرارة ولينوا في شدة وضعوا الصنائع عند ذوي الأحساب والأخطار فإنهم أصون لأحسابهم وأشكر لما يؤتى إليهم، وإياكم أن تخالفوا وصيتي وكونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيباني: إني أومل يا بني حرب الذرى ** أن تخلدوا وجدودكم لم تخلد فاتقوا الضغائن والتخاذل عنكم ** عند المغيب وفي الحضور الشهد بصلاح ذات البين طول بقائكم ** إن مد في عمري وإن لم يمدد وتكون أيديكم معًا في عونكم ** ليس اليدان لذي التعاون كاليد إن القداح إذا اجتمعن فرامها ** بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر إن هي بددت ** فالكسر والتوهين للمتبدد ثم أقبل على الوليد فقال: يا وليد اتق الله فيما أخلفك فيه واحفظ وصيتي وخذ بأمري، وانظر أخي معاوية فإنه ابن أمي وقد ابتلي في عقله بما قد علمت ولولا ذلك لآثرته بالخلافة عليك فصل رحمه واعرف حقه واحفظني فيه، وانظر أخي محمد بن مروان فأقرره على عمله بالجزيرة ولا تعزله عنه، وانظر أخاك عبد الله بن عبد الملك ولا تؤاخذه بشيء كان في نفسك عليه واقرره على عمله بمصر، وانظر ابن عمنا هذا علي بن عبد الله بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودته وهواه ونصيحته وله نسب وحق فصل رحمه واعرف حقه وأحسن صحبته وجواره. وانظر الحجاج بن يوسف فأكرمه فإنه هو الذي وطئ لكم المنابر وهو سيفك يا وليد ويدك على من ناوأك فلا تسمعن فيه قول أحد واجعله الشعار دون الدثار وإن كان في نفسك عليه إحنة فلا تؤاخذه بها فإن الإحنة ليست من الخلافة في شيء وأنت إليه أحوج منه إليك وإلا ألفينك إذا أنا مت تعصر عينيك وتحن كما تحن الأمة شمر وائتزر وألبس جلد النمر وضعني في حفرتي وخلني وشأني وعليك بشأنك وخذ سيفي هذا فإنه السيف الذي قتلت به عمرو بن سعيد وادع الناس إلى البيعة فمن قال بسيفه هكذا فقل بسيفك هكذا ثم تمثل بقول عيسى بن زيد حيث يقول: فهل من خالد اما هلكنا ** وهل بالموت يا للناس عار فلم يزل يردد هذا البيت حتى طفئ. فقام هشام بعد موته وكان أصغر الأربعة من ولده يقول: فلطمه الوليد وقال: اسكت يا ابن الأشجعية فإنك أحول أكشف تنطق بلسان شيطانك ألا قلت كما قال أخو بني أسد بن حجر حيث يقول: إذا مقرم منا ذرا حد نابه ** تخمط فينا ناب آخر مقرم قال: فقال مسلمة: فيم الصياح إنكم إن صلحتم صلح الناس بكم وإن فسدتم فالناس إلى الفساد أسرع ثم قال: أوه وأنشد: لقد أفسد الموت الحياة وقد ** أتى على يومه علق إلي حبيب فإن تكن الأيام أحسن مرة ** إلي لقد عادت لهن ذنوب أتى دون حلو العيش حتى ** أمره كروب على آثارهن كروب فقال سليمان: إنا لله وإنا إليه راجعون مات والله أمير المؤمنين فأصبح بمنزلة هو فيها والذليل سواء. وسمع الناس الداعية فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى أخرجت الجنازة وخرج الوليد في أثرها وهو محرم فنظر إلى سعيد بن عمرو بن سعيد يحمل السرير فقال: أشماتة يا ابن اللخناء ثم قصده بالقضيب فحاصره فحذفه. فلما دفن عبد الملك صعد الوليد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا لها من مصيبة ما أعظمها وأفجعها وأخصها وأعمها وفاة أمير المؤمنين، ويا لها نعمة ما أجلها وأوجب الشكر لله عليها خلافة سربلنيها فإن لله وإنا إليه راجعون على الزرية . ثم قام رجل من ثقيف والناس لا يدرون أيبتدئونه بالتعزية أم بالتهنئة فقال: أصبحت يا أمير رزيت خير الآباء وسميت بخير الأسماء وأعطيت خير الأشياء فعزم الله لك الصبر وأعطاك في ذلك نوافل الأجر وأعانك في حسن ثوابه على الشكر قال: ممن أنت قال: من ثقيف قال: في كم أنت من العطاء قال: في مائة فزاده وجعله في أشرف العطاء فكان أول من قضى له الوليد حاجة ذلك الثقفي ثم تسايل الناس عليه بالتعزية والتهنئة. وقد روينا أن عبد الملك كان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان لأنني ولدت فيه وفطمت فيه وأعذرت فيه واحتملت فيه وختمت القرآن فيه وأتتني الخلافة فيه فكان موته في نصف شوال من هذه السنة حين ظن أنه آمن من الموت وصلى عليه الوليد ودفن بالجابية وهو ابن إحدى وستين سنة. وقيل: أربع وستين وقيل: سبع وخمسين وقيل: ثمان وخمسين. واستقامت له الخلافة منذ أجمع عليه بعد قتل ابن الزبير إلى وقت وفاته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر وعلى حساب بيعته بعد موت أبيه إحدى وعشرين سنة وستة عشر يومًا. وقيل اثنتين وعشرين سنة ونصفًا.
|